تم رسم صورة للإنجاز في العصر الحديث هذه الصورة ليست خيالية ولكن هي غير متوفرة أو في متناول أيدي السواد الأعظم من الناس , البيت الجميل ذو الطابقين فأكثر , السيارة الفارهة , والزوجة الجميلة , بالإضافة إلى الوضعية الاستهلاكية , التسوق والذهاب للمجمعات الاستهلاكية الكبيرة ذوات الرفوف الكثيرة والمكدسة بالبضائع وانت تقوم بدفع عربة التسوق ذات الأربع عجلات أمامك واضعا طفلك الصغير بداخل العربة وبجوارك طفلك الأصغر منه سنا في ناحية وفي الناحية الأخرى تقف حرمك المصون وهي تشير إلى علبة المنتج الذي قامت بمشاهدته بالأمس خلال الفاصل الإعلاني الذي يتم عرضه خلال مشاهدتها لمسلسلها المفضل و الذي تتابعه باستمرار , وبعد جولة طويلة داخل المول تتوجهان إلى الكاشير وتقوم أنت بإخراج محفظتك بغية الدفع نقدا أو عن طريق البطاقة, هذه الصورة التي ذكرناها غير متاحة لمعظم البشر حاليا .
يجب التمرد على هذه الصورة الواحدة والنمطية والتي تم رسمها وحفرها داخل العقل الباطن للملايين من البشر عن طريق الفواصل الإعلانية بين المسلسلات التلفزيونية والتي تم تصميمها بالأساس من أجل تشكبل المجتمع على مقاس وقالب معين يصب بصورة أساسية في خدمة مصالح الشركات الكبرى والعابرة للقارات .
من المفترض أن يكون لكل إنسان تعريفه الخاص لمعادلة ومفهوم الإنجاز , فما يمثل انجاز لي لا يجب بالضرورة أن يمثل انجاز لغيري , فالإنجاز متعدد . الانتهاء من قراءة فصل في كتاب انجاز, المواظبة على صلاة الفجر يوميا في جماعة انجاز , النوم مبكرا والاستيقاظ مبكرا في عالم قائم على السهر و إهدار الوقت انجاز , حفظ سورة من القرآن انجاز , حفظ حديث او اثنين او ثلاثة من السنة النبوية انجاز , الخروج بصورة دورية للجري أو المشي انجاز , عدم تناول الناس وسيرهم والحديث عنهم بما هو شائن انجاز , تعليم طفل القراءة والكتابة أو الحساب الأولي , أو أي مهارة أولية أخرى انجاز , أو تعليمه مهارة حركية كقيادة الدراجة انجاز . كل هذه أنواع من الإنجازات يستطيع الإنسان تحقيقها في محيطه الضيق وبمجهود فردي بسيط ,دعنا عزيزي القارئ نذهب لأبعد مستوى أو صورة , وهي شخص فقير لا يملك مالا وبالكاد يستطيع أن يتحصل على قوت يومه فصبره وعدم جأره بالشكوى وتنغيص حالة ومزاج كل من يلقاه بشكواه عن حاله وصمته وتقبله لواقعه بصبر ورضى انجاز, ولو تقدم خطوة إلى الأمام فتبسم في وجه من يلقاه وإن كان يحمل من الهم والأوجاع الشيء الكثير فذلك أيضا يعد إنجازا .
فالإنجاز مفهوم فردي بحت قامت الحياة الحديثة على رسم صورة واحدة ومتخيلة وغير متوفرة لكل الناس داخل المجتمع الواحد ناهيك عن الفروق الاقتصادية بين الدول , وطلبت من الجميع السعي نحو هذا الشكل من الحياة وأن كل إنسان لم يستطع أن يصل لها فهو غير ذو انجاز في الحياة .
بطبيعة الحال ليس الغرض من هذا المقال التقليل من الإنجازات العظيمة والكبيرة والتي لا تخطئها العين والتي هي من الوضوح بمكان بحيث أن الكثير من الناس لا يستطيعون تجاهلها أو تجاوزها , فالحصول على درجة علمية عالية في تخصص دقيق أو التحصل على كمية لا بأس بها من الأموال عن طريق التجارة بصورة نزيهة في بلد قائم على المحسوبية والفساد الإداري والمالي , كل هذه إنجازات لا يستطيع أحد ألا يشير إليها أو ألا يغبط من تحصل عليها , ولكن الغرض هو تفكيك العقلية الغربية للإنجاز وتوضيح المدارات والمجلات والمستويات المتداخلة لعملية الإنجاز .
فحتى في الثقافة الغربية تم التراجع خطوة إلى الوراء واعتبار أن الإنجاز أو الحياة المفعمة بالحيوية والنشاط أو الحياة الفاعلة لابد لها من مستويات فمن أجل أن يصنف الانسان ضمن فئة أصحاب الإنجازات فلابد أن يكون له رصيد عال في كل مستوى من هذه المستويات وان تكون متوازنة في أرصدتها وألا يمتلئ أحدها على حساب الاخر , هذه المستويات هي المستوى الروحي والاسري والاجتماعي والعقلي والمادي والبدني ويمكننا أن نضع الروحي والأسري والاجتماعي تحت تصنيف واحد ألا وهو مغذيات الروح والتي تشتمل على مجموعة العلاقات لدى الشخص , فالروحي : هي علاقتك بربك وخالقك , والأسري علاقتك بأبنائك ووالديك وكل من تربطك به صلة رحم , أما الاجتماعي فعلاقتك مع المحيطين بك من الجيران أو زملاء العمل أو زملاء الدراسة , أما المستوى العقلي فيدور حول ما تقوم بإدخاله إلى عقلك إما عن طريق القراءة , القراءة الأكاديمية خلال سنين الدراسة أو قراءة الاطلاع الحر أو الدورات والسمنارات التي سبق وأن حضرتها أو النقاشات التي خضتها مع الأشخاص ذوي العقول النيرة و الأراء الثرة , المستوى المادي والذي يكثر تسليط الضوء عليه من الجميع والحاصد الأكبر للاهتمام, يتعلق هذا المستوى بمقدراتك المالية ومدى مقدرتك على تلبية التزاماتك الأسرية والشخصية وبعد الإيفاء بهذه الالتزامات قدرتك على دعم المجتمع من حولك , بعبارة أخرى هذا المستوى متعلق بحسابك البنكي ومقدار السيولة المتوافرة فيه بالإضافة لعاداتك الاستهلاكية ومقدرتك على الادخار والاستثمار , المستوى البدني متعلق بمدى لياقتك البدنية ومدى محافظتك على ممارسة الرياضة ومتابعة ما تقوم بتناوله من المأكولات والمشروبات والتركيز على الأكل الصحي والبعد عما , ما من شأنه أن يتسبب لك بالبدانة والسمنة والاصابة بأمراض السكري والضغط وتصلب الشرايين و الام المفاصل ومحدودية الحركة عند بلوغ سن متأخرة من حياتك .
الناجح في أحد هذه المستويات في حال أنه فشل في الأخرى , فسيعتبر نجاحه هذا نجاحا غير مكتمل, فهب أنك تمتلك من الأموال الكثير ولك شركة ناجحة أو حاصل على تخصص علمي دقيق في مجال نادر ولكن علاقاتك الأسرية والاجتماعية مدمرة أو أنك تعاني من العديد من النقائص دينيا وأخلاقيا فقد اعتبر هذا الشكل حتى في الأدبيات الغربية نوعا من أنواع الإنجاز الناقص أو الحياة الغير فاعلة .
الهدف كما أسلفنا ليس التقليل من الإنجازات العظيمة التي لا تخطئها العين والتي يغبط الانسان من تحصلوا عليها ولكن الهدف توضيح أنه إن شاءت الاقدار وشاء الله أنك لم تكن ممن تحصلوا على هذه الإنجازات العظيمة فإن لك من المدارات والمجالات والمستويات ما تستطيع أن تحقق فيه بعض الإنجاز والذي يمكن أن يصيبك بنوع من النشوة ومن الفرح وألا تحرم نفسك من هذه النشوة وهذا الفرح لا لشيء إلا لأنهم قد حددوا لك نوعا واحدا فقط من الإنجاز لابد أن تصل إليه وأن كل من لم تسعفه ظروفه وهمته وإرادته على الوصول لهذا النوع الواحد من الإنجاز فإن عليه أن ينزوي ويذبل ويتقهقر إلى الوراء ويشعر بشعور سيء حيال نفسه وحيال عالمه , فإن الإنجاز مفهوم كبير ومسرح واسع لابد أن تجد لك فيه مقعدا وإن كان في الصفوف الخلفية .

